قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن
أو تملأ ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة بزهان والصبر ضياء
والقرآن حجة لك أوحجة عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" صدق رسول الله
قبل أن نبحث عن دواعي وأسباب الخلاف الفقهي ينبغي أن نذكر حقيقة هامة هي: أن الإسلام دين الفطرة، أي أنه دين واقعي لايتعامل مع الخيال، وإنما يتعامل مع الواقع سواء كان على صعيد الوجود كله، أو صعيد التاريخ الإنساني أو صعيد الفطرة الإنسانية، وهي السر الوحيد لتميزِ الإنسان عن غيره من المخلوقات.
ومن عجائب الفطرة هذا الانسجام التكويني الرائع بين القناعة الفكرية، والميول العاطفية والسلوك العملي في الإنسان، كما أن من عجائبها هذا التنوع في دراسة الأشياء ومعرفتها وتطبيق البَدَهِيَّاتِِ العقلية عليها، وربما كان من عجائبها، أيضاً اختلاف وجهات النظر والاجتهادات في تحليل القضية الواحدة.
ولسنا بصدد التحليل النفسي بقدرما نحن بصدد القول، بأن الإسلام، بمقتضى واقعيته، قرر أن العقيدة يجب أن تتشكل وفق برهان منطقي: {قل هاتوا برهانكم} (سورة البقرة، من الآية:111). وأنه لايمكن الإكراه عليها، وإنما مسربها الطبيعي الاستدلال والبرهنة، وكذلك فإنه بمقتضى واقعيته، أيضاً، سمح بالاجتهاد في فهم نصوصه القرآنية والنبوية، واستنباط أبعادها وتطبيق مفاهيمها على الواقع، وبالتالي استنباط الصور الكلية والجزئية لموقف الإسلام من أنماط السلوك الإنساني، بل وحتى الموقف الإسلامي من الكون والحياة والإنسان، وشتى المواقف الاجتماعية المطروحة أو التي ستطرح على المسيرة الحضارية.
أما الاختلاف الذي نهى عنه القرآن الكريم، وشَدَّد النكر عليه، فهو كما هو واضح، الاختلاف في الموقف العام من القضايا المصيرية المشتركة للأمة الإسلامية الواحدة، ذلك أن حبل اللّه الذي أمرنا بالاعتصام به، هو الخط العام المتيقن من الإسلام والذي يشكل عصمة هذه الأمة وخصيصتها الكبرى أنه (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) ولايشك في هذه العروة الوثقى إلا جاهل أو مكابر.
وتبقى كل الاختلافات والاجتهادات المتنوعة في إطار الاعتصام بالكتاب والسنة وحينئذ يتوحد الموقف العام بالرغم من اختلاف الاتجاهات في الإطار الواحد.
إن وعي هذه الحقيقة ضروري لدى مفكرينا بل جماهيرنا، وردّ على أولئك الذين يدعون إلى تذويب المذاهب الفقهية تحقيقاً للوحدة الإسلامية.
أسباب الاختلاف الفقهي
ومعرفة أسباب الاختلاف الفقهي أمر مفيد جداً لتحقيق التقريب، وضروري لبحثنا هذا، فما هي هذه الأسباب؟.
ورقة العمل المقدمة من قبل اللجنة المنظمة لندوة التقريب التي انعقدت في المغرب، أرْجعَت الأسباب إلى أربعة، هي:
أ) الاختلاف في دلالة النص الثابت.
ب) الاختلاف في صحة النص المتعلق بالحكم.
ج) تباين الاجتهاد في ترجيح الأدلة عند تعارضها.
د) اختلاف الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص صريح(1).
وأوجزها ابن رشد في مقدمة كتابه > بداية المجتهد ونهاية المقتصد< وحصرها في ستة أمور:
أحدها: تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع، أعني بين أن يكون اللفظ عاماً يراد به الخاص، أو خاصاً يراد به العام، أو خاصاً يراد به الخاص، أو يكون له دليل الخطاب أو لا يكون.
والثاني: الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك: إما في اللفظ المفرد كلفظ: > القرء< الذي يطلق على الأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ: > الأمر< هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ > النهي< هل يحمل على التحريم أو الكراهة، وإما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى: {إلاّ الذين تابُوا} (سورة النور، من الآية: 5) فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف.
والثالث: اختلاف الإعراب.
والرابع: تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز التي هي: إما الحذف وإما الزيادة وإما التأخير وإما تردد على الحقيقة أو الاستعارة.
والخامس : إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة أخرى، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة وتقييدها بالإيمان تارة.
والسادس: التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الشرع الأحكام بعضها مع بعض، وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات أو تعارض القياسات نفسها، أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة، أعني معارضة القول للفعل، أو للإقرار أو القياس ومعارضة الفعل للإقرار، أو للقياس ومعارضة الإقرار للقياس(1).
إلا أن هذا التقسيم وقع موقع الاعتراض، إذ أنه ركز على الأسباب التي تتصل بالاختلاف في تنقيح الصُّغريات أو حجية القياس ، في حين أن الاختلاف في الكبريات نفسها ـ باعتبارها المنشأ الأساس لهذا الاختلاف ـ مما لا يمكن تجاهله، ولذا اتجهوا إلى التركيز على منبعين رئيسين هما:
.1 الخلاف في الأصول والمباني العامة المعتمدة في الاستنباط الاجتهادي، كالخلاف في حجية القياس أو العقل أو الاستصحاب.
.2 الخلاف في تعيين مصاديق تلك الكبريات وموارد انطباقها.
(وفي هذا القسم تنتظم جميع تلكم المناشىء التي ذكرها ابن رشد ونظائرها، مما لم يتعرض له كمباحث المفاهيم والمشتقات ومعاني الحروف، وما يشخص صغريات حجية العقل، كباب الملازمات العقلية، بما فيه من بحوث مقدمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي والإجراء، واقتضاء الأمر بالشيء، والنهي عن ضده وغيرها من المباحث الهامة)(1) وهنا نشير إلى أن بعض العلماء كانوا يجيزون الاختلاف في الفروع دون أصول الفقه.
وهذا التقسيم الأخير بلاريب أوْفى وأكثر انطباقاً على الواقع من التقسيمين السابقين، وهذا يعني أن الاختلاف في أصول الفقه هو أساس في جل الاختلافات في الفتاوي، الأمر الذي يتطلب جهداً واسعاً ولقاءات عملية مستمرة، لتحقيق تفهم أكبر للآراء والأدلة والوصول إلى ِِمساحات مشتركة ـ وهي واسعة كما أتصور ـ وذلك تقليلاً للخلاف ـ من جهة ـ وتفهماً أكثر لوجهة النظر الفقهية المخالفة ـ من جهة أخرى ـ الأمر الذي يمنع من انسحاب هذا الخلاف الطبيعي إلى المجالات التحريفية التي لمّحنا إليها.
وما نود أن نضيفه هنا هو عامل الاختلاف في مناهج الاستدلال، فهو يؤدي بالطبع إلى الاختلاف في النتائج، ومن هنا أدعو إلى ضرورة التحديد في منهج الاستدلال، وملاحظة الترتيب المنطقي بين الأدلة، وهو أمر ضروري جداً وإلا لوقعنا في الخلط الكبير.
ولا أعتقد أننا إذا ركزنا على نوع الدليل، ولاحظنا ظروفه الخاصة به، سوف نختلف في الترتيب المطلوب، وبدون ذلك نشهد اضطراباً واسعاً، فهذا يستدل بالاستصحاب أوّلاً، ثم يلجأ إلى النص، وذلك يذكر مقتضى أصل الإباحة ثم يلجأ للإجماع، وهكذا نقع في دوّامة فقهية فظيعة، وسر هذا الوقوع عدم التصفية المنهجية ابتداء، وهي شرط كل استدلال فقهي متين.
وفي هذا الصدد نجد مثلاً الإمام الغزالي، يطرح الترتيب على النحو التالي: > يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع، ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة، فينظر أول شيء في الإجماع، فإن وجد في المسألة إجماعاً، ترك النظر في الكتاب والسنة، فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لايقبله، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ، ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة، وهما على رتبة واحدة، لأن كل واحد يفيد العلم القاطع، ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية، إلا بأن يكون أحدها ناسخاً، فما وجد فيه نص عن كتاب أو سنة متواترة أخذ به، وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره، ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الأقيسة، فإن عارض قياس عموماً أو خبر واحد عموماً، فقد ذكرنا مايجب تقديمه منها، فإن لم يجد لفظاً نصاً ولا ظاهراً، نظر إلى قياس النصوص، فإن تعارض قياسان أو خبران أو عمومان، طلب الترجيح، فإن تساوياً عنده توقف على رأي، وتخير على رأي آخر<(1).
فالترتيب لديه هو مقتضى القاعدة التي تنفي التشريع قبل وروده، ثم الأدلة المخالفة لهذا المقتضى وفيها، أيضاً، يرجع إلى الاجماع أولاً، وإلا فإلى النصوص المتواترة، وبعدها إلى العمومات الكتابية ثم المخصصات، والأرجح إلى الأقيسة، وعند التعارض يطلب الترجيح ومَعَ التساوي، فإما التخيير، وإما التوقف والذي يظهر أن هناك نقاطاً هامة في هذا الترتيب.
منها: إن الإجماع ـ قلنا باستقلاليته في الدليلية ـ يقف إلى صف واحد من الكتاب والسنَّة، وباقي الأدلة الاجتهادية، فما معنى تخصيصه أولاً بالرجوع؟
ومنها : إن العمومات الكتابية على مستوى واحد من عمومات السنة، فما معنى تخصيص الأول بالذكر؟
ومنها: إن القياس ـ لو قلنا به ـ فهو في رتبة واحدة مع النصوص، فلماذا التأخير؟
ومنها: إنه ما الموقف عند فقدان الأدلة الاجتهادية، أي، ماهو الموقف العلمي؟ وليس لدينا أصلاً دليلان متعارضان حتى نتخيَّرَ أو نتوقف. ثم أين مسألة الاستصحاب؟ والبراءة؟ وعلى أي حال، فهنا؛ إيهامٌ واضح في البين.
إن هذا الأمر يتطلب دراسةً موسعةً حول ملاكات تقديم أي دليل على آخر، وهذه الملاكات تعرضتْ لها بالتفصيل المدرسة الأصولية الإمامية، وإن كان الاستيعاب قد تم في مرحلة متأخرة جداً (1).
وقد ذكرت أن الملاكات هي: التخصيص والتخصُّص والحكومة والورود، ونشير بالإجمال إلى معانيها:
ـ التخصيص: والمراد به إخراج من الحكم مع دخول المخرج موضوعاً.
ـ التخصص : والمراد به الخروج الموضوعي الوجداني. وهذان معروفان.
ـ الحكومة: والمراد بها أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر موسعاً أو مضيقاً له، فمن القسم الأول: من أن الفقاع خمر استصغره الناس. ومن الثاني: قوله#: >لاضرر ولاضرار<. الذي يقوم بتضييق موضوع الأدلة الأولية إلى ما لايشمل الأحكام الضرورية.
ـ الورود : والمراد به الدليل النافي للموضوع وجداناً، ولكن بواسطة تعبد شرعي كتقدم دليل: > لاضرر< على دليل: >وجوب دفع الضرر المحتمل< في المورد الضروري.
وعبر هذه الملاكات لاأظن أننا سنختلف بعد ذلك كثيراً، ذلك أن المجتهد يبحث ـ أول ما يبحث ـ عن واقع الحكم الشرعي، فإذا لم يجد شيئاً، راح يبحث عما نزل بمنزلة الواقع، فإذا لم يعثر على شيء فعليه البحث عن موقفه العملي كما تحدده الوظيفة الشرعية، وإلا راح للموقف العملي كما يحدده العقل، وعند تعقد الأمر يلجأ عادةً للقرعة طبق تحديداتها. وهذا الترتيب قائم على قوانين الحكومة والورود.
فالأدلة التي تكشف بلسانها عن الواقع كالكتاب والسنة والإجماع، وغيرها مقدمة بلاريب على الأدلة التي تكشف عن الواقع التنزيلي (أي ماهو بمنزلة الواقع) كالاستصحاب وأصالة الصحة وقاعدة التجاوز والفراغ في الصلاة وأمثالها، وذلك لأن الأولى حاكمة على الثانية ومزيلة لموضوعها تعبداً، في حين نجد أن أدلة الواقع التنزيلي مقدمة بدورها على أدلة الوظيفة الشرعية كأدلة البراءة والتخيير والاحتياط، لأن هذه الأدلة، أخذ في موضوعها فقدان الواقع بجميع مراتبه حتى التنزيلية.
وأدلة الوظيفة العملية الشرعية مقدمة على أدلة الوظيفة العملية العقلية. وهذه الأخيرة مقدمة على أدلة القرعة لنفس ما ذكرناه(1).
وما أظنه أن الكثير من الاختلاف في مناهج الاستدلال راجع إلى عدم التركيز على ملاكات التقديم هذه، وإلا فلامجال للاختلاف الكثير.
ومن الضروري أن ننبه هنا أن هذه الملاكات بنفسها تلعب دورها في تقديم أدلة الأحكام الثانوية ـ كالأحكام الضرورية والحرجية، وأحكام السبيل على المؤمنين، وأمثالها ـ على أدلة الأحكام الأولية، كالوضوء والصوم والحج، وغيرها.
وكذلك في تقديم أدلة الأحكام الولائية التي يصدرها ولي الأمر في مِنْطَقةِ المباحات بعناوينها الأولية على أدلة الإباحة هنا، باعتبار أن أدلة الولاية ناظرة إلى الأدلة الأولية ومقدمة عليها، وهو باب واسع من الضروري أن تتم دراسته والتأمل العميق به.
مجالات الاختلاف الفقهي والموقف فيها:
لاحظنا أن وجود الاختلاف حالة طبيعية نتيجة تعدد أسباب الاختلاف.
إلا أننا هنا نحاول التحدث عن المجالات التي يتم الاختلاف فيها، وكيفية توجيه الموقف فيها، أو احتواء الموقف الخلافي، أو بالأحرى تحويل الخلاف إلى نقطة قوة وثراء، بدلاً من أن يتحول إلى نقطة خور وضعف، ومهما قيل عن الحديث المنسوب للرسول#> اختلاف أمتي رحمة< ، فإن الإسلام لابد أن يحول كل القضايا الطبيعية إلى عنصر ثراء للمسيرة الإسلامية الصاعدة.
ولما كان الفقه مرتبطاً بالحياة الفردية والاجتماعية، فمن الطبيعي أنه يترك أثره الإيجابي أو السلبي على المسيرة الحياتية، فما هو الطرح الإسلامي المتصور في البين؟.
ولدى الجواب نود أن نذكر بأن السلوك ينقسم إلى فردي واجتماعي، دون أن نضع حداً فاصلاً بينهما، فإن هناك سلوكات فردية ترتبط تماماً بالسلوك الاجتماعي، وأخرى لاعلاقة مباشرة لها بذلك، ولذلك فهي مشمولة للأحكام الاجتماعية بمقدار هذه العلاقة.
فإذا ركز على أنماط السلوك الفردي من قبيل ( استحباب القنوت في الصلاة ووجوب رد السلام، وحرمة النذر لغير الله تعالى)، وأمثال ذلك مما لايرتبط مباشرة بالسلوك الاجتماعي العام، وجدنا أن الإسلام يفسح المجال للمسلم أن يجتهد بنفسه لاستنباط هذه الأحكام، أو يقلد مجتهداً فيها، ولاضير حينئذ في اختلاف الاجتهاد الذي لايترك أثراً على وحدة الموقف العام.
فإذا انتقلنا إلى الساحة الاجتماعية، والعمل الاجتماعي، فإن الموقف كما نرى يتغير فرغم سماح الإسلام للمجتهدين، بل تأكيده عليهم في استنباط المواقف النظرية للإسلام في هذا المجال، وكذلك سماحه لهم في إبداء الرأي في النوازل والحوادث الواقعة، إلا أنه لايسمح لهم مطلقاً بالإخلال بالموقف العام، ومن هنا نقول: إن المجتهدين يمكن أن يستنبطوا الحكم الإسلامي الأولي أي الذي وصفه الإسلام للموضوعات بعناوينها الأولية كحرمة الخمر والربا والقمار ووجوب الصلاة والزكاة والحج، كما أن لهم أن يعينوا الموقف النظري في الأحكام الثانوية، أي الأحكام التي تطرأ على الموضوعات نتيجة حصول ضرر أو حرج أو إكراه أو وقوع الشيء مقدمةً للواجب أو سد ذريعة للمراح وما إلى ذلك، والمكلفون هم الذين يشخصون مصاديق هذه المواقف النظرية، ويعملون بها في سلوكاتهم الفردية.
أما المجال الاجتماعي أو الموقف الاجتماعي، فالذي يقرره هو المجتهد الحاكم لاغير ويمكن لغيره من المجتهدين أن يعينوه على ذلك، وإذا صدر الموقف الحكومي الشرعي، فليس لأحد من المجتهدين أن يخالفه عملياً على الإطلاق، وإلا لأدى ذلك إلى شق عصا المسلمين، ومن هنا يحق لنا أن نقول: إنه لا مجال للاختلاف في الموقف الاجتماعي العام داخل المجتمع الإسلامي أو تجاه خارج هذا المجتمع.
ولي الأمر وانتخاب الفتوى الملائمة:
في أحد بحوثنا الماضية التي طرحت حول مسألة (التلفيق والأخذ بالرخص) قلنا بأنّ للفرد أن يأخذ بمسألة التلفيق بين الفتاوى، بعد أن بنينا ذلك على عدم لزوم اتباع الأعلم في التقليد، ولسنا نريد إعادة البحث هنا، ولكنا نريد أن نتحدث عن حقيقة هامة هنا هي أن الحاكم الشرعي يستطيع أن يعتمد فتواه أو فتوى غيره مما يراه منسجماً أكثر من غيره مع مجمل الخط العام الإسلامي؛ فيصدر أمره بجعل هذه الفتوى حكماً عاماً وقانوناً تتبعه الأمة ـ بما فيها سائر المجتهدين، بما يشمل القائلين بخلاف تلك الفتوى ـ وهذا المعنى إنما يتصور في مجال الحياة العامة لا السلوك الفردي(1).
ولتوضيح الأمر نقول:
إن المجال هنا ليس مجال تقليد العامي للمجتهد ليأتي بحث (الأعلمية)، وإنَّما هو مجال إدارة الحياة العامة بما يحقق المقاصد الإسلامية وفق الأحكام التي شرعها الشارع الحكيم (تعالى) في إطار تخطيط إسلامي للحياة قد يتطلب أحياناً اللجوء إلى فتوى معينة هي أكثر انسجاماً مع المصلحة العامة، وتشكل مع غيرها مجموعة متكاملة مما يدفع إلى انتقائها وجعلها قانوناً بعد أن كانت حصيلة اجتهاد إسلامي جارٍ وفق الطريقة الشرعية لاستنباط الأحكام. فلو كان الحاكم ممن يقولون بمسألة تعدد الآفاق ـ كما هي فتوى الشافعية ـ وبالتالي تعدد أوائل الشهور القمرية في العالم الإسلامي، إلا أنه كانت فتوى معتبرة ـ وحبذا لو كانت مشهورة أيضاً ـ تقول بوحدة الآفاق وكفاية رؤية القمر في أي مكان من العالم للحكم بدخول الشهر القمري، كما هي مثلاً فتوى المذاهب الثلاثة (الحنفي والمالكي والحنبلي) وبعض علماء الإمامية كالمرحوم الإمام الخوئي والإمام الشهيد الصدر(2)، فإن للحاكم الشرعي لابصفته يفتي لمقلديه. بل بصفته يدير شؤون الأمة الإسلامية أن ينتخب هذه الفتوى، ويحولها إلى حكم إلزامي تدار على أساس منها شؤون الأمة.
فملاك عمل الفرد في تقليده هو الوصول إلى الرأي الحجة بينه وبين ربه في المجال العملي، في حين أن ملاك عمل الحاكم الشرعي، هو تحقيق مقاصد الشريعة وإشاراتها مع الحفاظ على المصلحة العامة للأمة في إطار ما منحته الشريعة من صلاحيات قانونية.
ولكي نقرب الأمر إلى الذهن نلاحظ أن الباحث المسلم لكي يكتشف مذهباً حياتياً كالمذهب الاقتصادي الإسلامي أو المذهب الاجتماعي، أو الحقوقي أو غير ذلك، قد يجد فتاوى منسجمة مع بعضها لدى مفتين متعددين، لكنها تشكل وجهاً واحداً لخط عام منسجم، وحينئذ فإنه يستطيع أن يطرح ذلك الخط كصورة اجتهادية عن المذهب المذكور.
وهذا مافعله المرحوم الشهيد الصدر ـ وهو من كبار المجتهدين ـ في كتابه >اقتصادنا<، وقال مفسراً ذلك : > إن اكتشاف المذهب الاقتصادي يتم خلال عملية اجتهادية في فهم النصوص وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في اطراد واحد، وعرفنا أن الاجتهاد يختلف ويتنوع تبعاً لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص، وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر، وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنونها، كما عرفنا، أيضاً، أن المجتهد يتمتع بصفة شرعية وطابَعٍ إسلامي مادام يمارس وظيفته، ويرسم الصورة، ويحدد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة، ووفقاً للشروط العامة التي لايجوز اجتيازها.
وينتج عن ذلك كله ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي، ووجود صور عديدة له كلها شرعي وكلها إسلامي، ومن الممكن أن نتخير في كل مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة، وأقدرها على معالجة مشكلات الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام، وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حريته ورأيه.
ويضيف: >إن ممارسة هذا المجال الذاتي، ومنح الممارس حقاً في الاختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة، قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنية لعملية الاكتشاف<.
ثم يضيف متسائلاً: > هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كل واحد من المجتهدين ـ بما يتضمن من أحكام ـ مذهباً اقتصادياً متكاملاً، وأسساً موحدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها؟ ونجيب على هذا التساول بالنفي، لأن الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الأحكام معرض للخطأ، ومادام كذلك فمن الجائز أن يضم اجتهاد المجتهد عنصراً تشريعياً غريباً على واقع الإسلام... ولهذا يجب أن نفصل بين واقع التشريع الإسلامي، كما جاء به النبي# وبين الصورة الاجتهادية، كما يرسمها مجتهد معين<(1).
فإذا كانت الحال هذه ـ مع اكتشاف النظرية العامة للإسلام من قبل مجتهد ما ـ مشروعة فهي أولى في المشروعية عندما يراد إصدار قانون عام، وذلك:
أولاً : لما يملكه الحاكم الشرعي من صلاحية واسعة لتحويل الأحكام وفق المبادىء المعطاة.
ثانياً : لكون هذه الحالة مؤقتة في حين يراد للنظرية أن تكون دائمة.
ثالثاً : لأنه يعتمد على خبراء الدولة ومشاورتهم في معرفة الواقع القائم واكتشاف التلاؤم بين الفتاوي، الأمر الذي يقربه من الواقع.
رابعاً : لأنه لا مفر لانتخاب إحدى الفتاوى للعمل بها بشكل عام من قبل الحاكم الشرعي، ولذا فمن الطبيعي أن تنتخب الفتوى الأكثر انسجاماً مع سير الأمور.
كل ذلك شريطة أن تكون قد صدرت على أساس من قواعد الاجتهاد المعروفة، بل وقد نشترط فيها أحياناً أن تكون من الفتاوى المشهورة.
ونشير هنا إلى أن الكثير من الدول لم تعتمد في دساتيرها مذهباً إسلامياً معيناً حتى في قضايا الأحكام المدنية. بالرغم من أنها ركزت على خصوص أحد المذاهب، فقد اضطرت لكي تحفظ سلامة العائلة وصيانتها، للاعتماد على الرأي الإمامي القائل بعدم مشروعية الطلاق بالثلاث واعتباره طلاقاً واحداً بالرغم من أنها اعتمدت في عموم أحكامها على المذاهب الأخرى.
الحوار المطلوب:
إذا كان الإسلام قد سمح بالاجتهاد واعتمد العقل والبرهان سبيلاً منطقياً للإقناع، فمن الطبيعي أن يجوّز الحوار ويدعو إليه على كل الأصعدة، وهي من قبيل:
أ) الحوار بين المسلمين المختلفين في الشؤون الشخصية.
ب) الحوار بين المختلفين في القضايا الاجتماعية.
ج) الحوار بين الفقهاء.
د) الحوار العقائدي.
هـ ) الحوار بين الأديان.
خامساً : المنطقية بحيث يسير البحث بشكل منطقي، وتؤدي المقدمات إلى النتائج بشكل طبيعي، وذلك دونما تحايل أو مماطلة أو جدال عقيم، والنصوص التي تنهى عن الجدال والمراء كثيرة.
منها قوله تعالى: {ماضربوهُ لكَ إلا جدلاً بل هم قومٌ خَصِمونَ} (سورة الزخرف، من الآية: 58). وقوله تعالى: {وكان الإنسانُ أكثر شيء جدلاً} (سورة الكهف، الآية: 54).
وقد رأينا العلماء يردون التحايل على الطرف الآخر، ويذكرون لذلك أمثلة من قبيل:
أ) إبهام العبارة حتى لا يفهمها الطرف لآخر.
ب) الاحتيال عليه حتى يخرجه عن محل تساؤله.
ج) توجيه كلام السائل إلى وجوه محتملة (1) .
بل تحدثوا عن الصفات التي قد يُبتلى بها المتحاوران نتيجة القدرة على امتلاك الموقف، من قبيل الحقد والحسد وتزكية النفس والفرح بمساءة الآخرين، والاستكبار عن الحق، والرياء، وكل ذلك لكي تعود إلى المحاور شخصيته الطبيعية التي تحقق منطقيته في الحوار.
سادساً : الابتعاد عن جو التهويل أو ما يسمى بتأثير العقل الجمعي، ففي مثل هذا الجو يفقد الحوار جوه المطلوب، ولا معنى فيه للاستدلال المنطقي الهادىء الحكيم.
ومن خير الأمثلة على ذلك ماذكره القرآن الكريم من جو انفعالي واجه المشركون به النبي#واتهموه بالجنون، ولذلك طلب من الرسول#أن يدعوهم إلى نبذ هذا التهويل، والعودة إلى الهدوء المطلوب، ثم التفكير بما يتهمونه به، يقول تعالى:
{قل إنما أعظكم بواحدةٍ أنْ تقوموا للّهِ مَثْنى وفُرادى ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جِنَّةٍ إن ْ هو إلا نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد} (سورة سبإ، الآية: 46).
سابعاً : أن يكون الحوار مما يترك أثراً عملياً أو فكرياً، فلا معنى للحوار حول افتراضات تجانب الواقع، يقول الإمام الغزالي: >...الرابع أن يناظر في واقعة مهمة أو في مسألة قريبة من الوقوع، وأن يهتم بمثل ذلك< (2).
ثامناً: أن تلحظ في الحوار كل الجوانب المرتبطة بالموضوع، فقد تترك الجوانب غير الملحوظة أثرها على النتيجة، أما إذا لم يتسع صدر البحث، فيجب الاتفاق على قدر متيقن فيها.
والله تعالى نسأل أن يوفقنا لمراضيه.
لؤلؤة الجنة مسؤولية المنتدى
الأوسمة : عدد المساهمات : 723 تاريخ التسجيل : 26/01/2011